تطورات الظاهرة الإرهابية في إفريقيا على هوامش “حمى الانقلابات”
تانيد ميديا : مع تركز أنظار العالم نحو ظاهرة الانقلابات في إفريقيا منذ نهاية يوليو الفائت، وترقبه للانقلابات التي تقع في دول إفريقية أخرى، رغم الإجراءات الاحترازية التي أقدمت عليها مجموعة كبيرة من الدول الإفريقية في مختلف أرجاء القارة لتفادي ذلك؛ فإن ظاهرة الإرهاب “وتصاعدها” جراء “الفوضى السياسية” تظل مسألة مهمة بحاجة إلى مقاربات دقيقة للفصل في حقيقتها، وهل هذه الظاهرة تُعدّ عرضًا من أعراض أزمة الدولة الإفريقية “المزمنة”، أم أنها سبب رئيس في ذلك؟
الإجابة الدقيقة عن هذه الأسئلة ربما تُسهم في تعزيز الجهود الوطنية والإقليمية والدولية لمواجهة ظاهرة الإرهاب مواجهة حقيقية ومثمرة، والخروج من دائرة جهنمية من استنزاف موارد الدول الإفريقية الفقيرة (لا سيما في إقليم الساحل الإفريقي)؛ لصالح استدامة أزمة خطيرة ومُلحّة مثل الإرهاب والعنف المسلح، وهي مسألة مُعقّدة وجّهت بخصوصها اتهامات من دول إفريقية (مثل: مالي والنيجر وبوركينا فاسو) لقوًى دولية بالاستثمار في الأزمة وتغذيتها؛ توطئة لتكريس مستمر لنهب موارد تلك الدول لصالح أطراف متنوعة، من بينها دول وشركات غربية ومتعددة الجنسيات .
الإرهاب في ظل حمى الانقلابات: المتغيرات والآفاق
رصدت تقارير متخصصة منتصف يوليو 2023م تطورات الظاهرة الإرهابية في القارة الإفريقية، ولاحظت تضاعف الهجمات الإرهابية نحو سبعة أضعاف في الفترة من العام 2000م إلى العام 2018م، وأن هذا التزايد تمّ رغم الزيادات الكبيرة في الإنفاق العسكري في القارة.
واستند أحد هذه التقارير إلى مقابلات مباشرة مع عينات من 34 دولة إفريقية، كشفت بيانات هذه اللقاءات في المحصلة عن تزايد الإنفاق العسكري نتيجةً لتصاعد الحوادث الإرهابية في هذه الفترة.
وتأكدت صلة الإرهاب بالآثار السلبية على الأنشطة الاقتصادية من عدة نواحٍ. كما ينتج عن الإرهاب تدمير رأس المال البشري والمادي، كما يُؤثر على تخصيص استثمار واستهلاك الأفراد بسبب تزايد حالة الغموض وتوجيه الموارد بعيدًا عن الاستثمارات الإنتاجية في البنى التحتية العامة أو رأس المال البشري.
ووفق “قاعدة بيانات الإرهاب العالمية” Global Terrorism Database (GTD)؛ فإن عدد الهجمات الإرهابية زاد بشكل كبير في إفريقيا في الفترة 2000-2018م؛ من 330 هجمة عام 2000م، إلى 2365 في العام 2018م. كما تزامنت هذه الفترة مع زيادة لافتة في الإنفاق العسكري في إفريقيا من نحو 10,6 بليون دولار (ما نسبته 8,5% من الإنفاق العام في العام 2000م) إلى 32,8 بليون دولار (أو نسبة 6,7% من الإنفاق العام في العام 2018م). ووصلت الحوادث الإرهابية والإنفاق العسكري للذروة في العام 2014م؛ حيث بلغت هذه الحوادث 3086 هجمة، وبلغ الإنفاق 41,7 بليون دولار([1]).
كما سبق أن رأى محللون، قبل تجدُّد موجة الانقلابات في منتصف العام الجاري، أنه ثمة حاجة لآليات الأمن الإقليمي (مثل: القوة المشتركة لدول الساحل الخمسة G5 Sahel Joint Force (FC-G5S)، وقوة المهام المشتركة متعددة الجنسيات Multinational Joint Task Force (MNJTF) قوة المهام المشتركة متعددة الجنسيات ، ومبادرة أكرا Accra Initiative وقوة استعداد الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا Economic Community of West African States (ECOWAS) Standby Force([2]).
على أيّ حال، وفي ضوء تعقيد وتداخل العضوية في الجماعات أو الآليات الإقليمية؛ فإنه ثمة حاجة لضبط دقيق لأولويات العمل الجماعي للقضاء على إهدار الموارد مع التكلفة المرتفعة لتكرار الأدوار أو الافتقار إلى التنسيق بين الأنشطة المختلفة. كما يجب أن تكون ثمة جهود حثيثة لمشاركة “دول الجوار” التي لا تُواجه “حاليًّا” هجمات إرهابية.
كما لاحظ المراقبون الحاجة الماسَّة إلى الإسراع في تنشيط وتفعيل “الهيكل القاري للسلام والأمن” African Peace and Security Architecture (APSA)، بما في ذلك تطبيق مبدأ تخصيص ما قيمته نسبة 0,2% من واردات دول الاتحاد الإفريقي لزيادة الاستقلال المالي للاتحاد؛ مما سيساعد على ضمان انتهاج الاتحاد لسياسة “حلول إفريقية لمشكلات إفريقية”، بالتعاون مع الجماعات الاقتصادية الإقليمية والآليات الإقليمية والمجتمع الدولي([3]).
لكنَّ موجة الانقلابات الحالية، ونجاح دول من مثل مالي وبوركينا فاسو في تضييق الخناق على الجماعات الإرهابية، وحصرها في مجالات نفوذ جغرافية أضيق حالًا، مقارنةً بما كان عليه الحال في ظل وجود القوات الفرنسية (والتابعة للأمم المتحدة)، والنجاح المبدئي الذي أظهره الجيش في النيجر في التعامل مع أزمات “إرهابية” طارئة تزامنت مع تقلّده السلطة نهاية يوليو الماضي؛ كشف كل ذلك عن تغير ملموس في مجمل الحالة الإرهابية، على الأقل في الوقت الراهن.
ويمكن تلمُّس تلك التناقضات على النحو التالي:
1- فاقمت مجمل الأوضاع الإنسانية السيئة من فاعلية العمليات الإرهابية في إقليم غرب إفريقيا في النصف الأول من العام الجاري؛ حيث شهد الإقليم أكثر من 1800 هجوم إرهابيّ أسفر عن مصرع نحو 4600 فرد، (وهي أرقام تتعارض مع أرقام أخرى من قبيل ما ورد مطلع أغسطس الماضي عن وقوع 34 هجومًا إرهابيًّا في مجمل القارة الإفريقية في شهر يوليو 2023م، أغلبها في القرن الإفريقي وشرق إفريقيا([4])؛ مما يضع أرقام عمر تراوري على محك خطير للغاية حال دقة الأرقام الأولى).
كما شهد الإقليم (الذي يضم 15 دولة في الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا- إيكواس) في الفترة نفسها لجوء نحو نصف مليون نسمة إلى خارج أوطانهم، وتشرُّد نحو 6,2 مليون نسمة داخليًّا.
كما يعاني 30 مليون نسمة في الإقليم من الحاجة الملحّة للغذاء، ويتوقع أن يرتفع عددهم إلى 42 مليون نسمة بنهاية العام الجاري، حسب تصريحات مهمة لعمر تراوري رئيس مفوضية إيكواس نهاية يوليو الماضي؛ بسبب مجموعة من العوامل، أبرزها الإرهاب والتمرد المسلح والجريمة المنظّمة والتغيرات غير الدستورية في الحكم والأزمات البيئية([5])؛ وهو ترتيب “مُضلّل” إلى حدّ كبير؛ إذ كانت التغيرات البيئية الدافع الأكبر لمثل هذه الكوارث.
2- رغم ما رصدته تقارير إقليمية ودولية (من بينها أحدث تقرير حول الإرهاب صادر عن مركز معلومات الاستخبارات والإرهاب في إسرائيل في الأسبوع الثاني من سبتمبر الجاري)؛ من تراجع أنشطة “داعش” في مختلف أرجاء العالم، ومنها إفريقيا؛ فإن مسألة الإرهاب تظل بطبيعتها مُلحّة لدى أغلب الدول الإفريقية؛ وهو ما عبَّرت عنه غانا (التي تقود جهودًا إقليمية للتدخل العسكري في النيجر بغضّ النظر عن التداعيات الخطيرة التي كانت متوقعة جراء مثل هذا التحرك على مجمل الأوضاع في غرب إفريقيا)؛ في جلسة مجلس الأمن نهاية أغسطس الماضي؛ حيث نبَّهت مباشرة إلى أهمية تقوية عمليات ضبط الاتجار في السلاح، ومنع التهريب غير الشرعي له عَبْر تبنّي آليات واضحة لضبط الحدود من أجل “إبطاء انتشار الأسلحة وتحجيم قدرة الجماعات الإرهابية على العمل”، وأهمية تفعيل “مبادرة أكرا”، وهي منصة جماعة إيكواس لمواجهة الإرهاب([6]).
الأمر الذي يثير تساؤلات حول قدرة أكرا نفسها على الفصل بين أدوارها (وأدواتها) الإقليمية كقوة تواجه الإرهاب، ومساعيها لزعزعة استقرار إحدى دول الجماعة (النيجر) عبر تدخل عسكري كان مرفوضًا من البداية من عدد من دول جماعة إيكواس؛ كما اتضح في مراحل لاحقة.
3- إن تراجع مستويات العمليات الإرهابية في الدول التي ضربتها الانقلابات الأخيرة يثير تساؤلات حول شبكات دعم وتعزيز أنشطة هذه الجماعات في القارة الإفريقية بشكل عام؛ وهي مسألة باتت بحاجة ملحّة لمقاربات مغايرة تأخذ في الحسبان وجهات نظر المعنيين داخل هذه الدول في المقام الأول.
حالة الإرهاب في مالي بعد انقلاب مايو 2021م:
وطَّد النظام العسكري القائم في مالي في العام الجاري 2023م علاقاته بالعديد من القوى الفاعلة في إفريقيا، مثل روسيا والصين؛ من أجل تعزيز قدراته العسكرية والأمنية في مجالات حفظ الاستقرار في البلاد، ومواجهة الظاهرة الإرهابية؛ وفيما دلَّ على نجاح مساعي باماكو وحلفائها الجدد (أبرزهم: روسيا والصين؛ واللتان عملتا بقوة وبتنسيق كبير على تفادي التداعيات الاقتصادية والأمنية السلبية التي كانت مُرتقَبة منذ تغيير نظام الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا قبل نحو ثلاثة أعوام على مصالحهما).
وفي هذا السياق تلقَّى النظام الحاكم في باماكو شحنة معدات عسكرية صينية مُهمّة في ربيع العام الجاري؛ لدعمه في جهوده لمواجهة أنشطة الجماعات الإرهابية، وبالتوازي مع إقدام الحكومة الروسية على تقديم تدريبات عسكرية موسَّعة للجيش المالي، وحصوله على مُسيَّرات عسكرية مهمة ومؤثرة للغاية في جهود الجيش المالي من تركيا، وهي أحد أعضاء حلف الأطلسي.
ولفتت تقارير عسكرية متخصصة إلى تلقّي مالي بالفعل شحنات مماثلة في مارس وأغسطس من العام 2022م، ثم في يناير 2023م، مما يعني وجود شراكة عسكرية بين بكين وباماكو مكَّنت الجيش المالي في النهاية من الصمود في وجه المتغيرات العديدة، وأبرزها خروج القوات الفرنسية والغربية والأممية من البلاد([7]).
وفي يونيو الماضي تلقَّى الجيش المالي دفعة ثانية من معدات عسكرية من نورينكو جروب Norinco Group الصينية، وتكونت الدفعة من أكثر من 70 ناقلة عسكرية جديدة، وصفها محللون عسكريون بأنها جزء من صفقة أسلحة صينية ضخمة موجهة لتقوية نظام عاصمي غويتا (مع ملاحظة تقديم الصين نفس أنواع هذه المعدات إلى دول إفريقية أخرى، منها: تشاد والجزائر، وأنجولا وبوروندي والكاميرون وتنزانيا).
وأكد محللون أن امتلاك الجيش المالي لمثل هذه الأسلحة المتطورة يُمثّل خطوة رئيسة نحو تمكينه من مواجهة حاسمة للتهديدات الإرهابية، وأنه عبر تقديم الصين للجيش المالي أحدث تكنولوجيا دفاعية ممكنة؛ فإن الجيش المالي سيكون قادرًا على الاستجابة بسرعة وفعالية للتهديدات الطارئة([8]).
مستقبل الإرهاب في غرب إفريقيا بعد انقلاب النيجر:
تحتل النيجر مكانةً بالغة الأهمية في الجهود الدولية والإقليمية لمواجهة الإرهاب في غرب إفريقيا؛ وقد أعلن قادة الانقلاب العسكري الأخير منذ نهاية يوليو بالفعل وضع بند مكافحة الإرهاب على قمة أجندتهم في المرحلة الانتقالية.
وفي المقابل رأت فرنسا أن “الانقلاب” سيمثل ضربة موجعة للجهود الدولية (التي اضطلعت فيها بدور رئيس لم يسفر عن تحقيق تقدُّم ملموس في الملف طوال العقد الفائت حسب إفادات باتت متواترة من باحثين ومعنيين ومواطنين في الدول التي نشطت فيها الجهود الفرنسية). وبين طرفي النقيض تختبر الشهور المقبلة قدرة النظام الحالي في نيامي على تكرار التجربة المالية في ملف مكافحة الإرهاب ومحاصرة جيوبه، بالتعاون مع قوى دولية تراقب المسألة بقدر من الجدية، وتُقدّر المصالح المشتركة مع النيجر.
وكان لافتًا بعد الانقلاب الأخير في نيامي تواتر أخبار القيام بعمليات إرهابية في شمالي البلاد في وسائل إعلام متنوعة؛ “مما يفاقم من فرص انتشار الإرهاب في ظل مناخ عدم الاستقرار عقب الانقلاب” (البايس الإسبانية 23 أغسطس على سبيل المثال)([9])، فيما جاء الواقع في الأسابيع التالية من الانقلاب ليدحض هذه الرواية برُمّتها، ويكشف عن فعالية واضحة أظهرها الجيش في النيجر في ضبط حدود البلاد (بالتعاون مع شريكين رئيسيين هما مالي وبوركينا فاسو، وبتفهُّم واضح من دول الجوار)، ومواجهة أيّ تهديدات إرهابية محتملة في النيجر (وهي في الأساس تهديدات محدودة لا تُقارن بأيّ حال من الأحوال بالوضع في مالي).
على أي حال؛ يبدو أن نجاح نظم الحكم التي جاءت بجيوش وطنية إلى السلطة في مواجهة الجولة الأولى من المعركة مع الإرهاب وشبكات دعمه مؤشر إلى احتمال تعزيز قدرات هذه الدول (الفردية والجماعية) في مواجهة أكثر فعالية للظاهرة الإرهابية وتداعياتها، عوضًا عن تبنّيها –ربما- مقاربة مغايرة في مواجهة الأسباب الجذرية لهذه الظاهرة اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، وربما تجاوز ذلك إلى مواجهة شبكات دعم الإرهابيين ومحاصرتها في الإقليم.
د. محمد عبد الكريم أحمد / منسّق أبحاث إفريقيا – معهد الدراسات المستقبلية- بيروت
المصدر: مجلة قراءات إفريقية